الدين المعاملة ليس بحديث ولكنه من كلام العلماء وإن كان معناه مما اتفق عليه كافة العلماء وهو ضرورة التحلى بكافة الأخلاق الإسلامية، والعبادات الإسلامية الكبرى ذات أهداف أخلاقية واضحة.
فالصلاة وهي العبادة اليومية الأولى في حياة المسلم، لها وظيفة مرموقة في تكوين الوازع الذاتي، وتربية الضمير الديني: (وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).
والصلاة كذلك مدد أخلاقي للمسلم يستعين به في مواجهة متاعب الحياة: (يا آيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة)
والزكاة وهى العبادة التي قرنها القرآن بالصلاة ـ ليست مجرد ضريبة مالية، تؤخذ من الأغنياء، لترد على الفقراء. إنها وسيلة تطهير وتزكية في عالم الأخلاق، كما أنها وسيلة تحصيل وتنمية في عالم الأموال:
(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).
والصيام في الإسلام، إنما يقصد به تدريب النفس على الكف عن شهواتها، والثورة على مألوفاتها. وبعبارة أخرى: إنه يهيئ النفس للتقوى وهى جماع الأخلاق الإسلامية: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
والحج تدريب للمسلم على التطهر والتجرد والترفع عن زخارف الحياة وترفها، وخضامها وصراعها. ولذا يفرض في الحج الإحرام ليدخل المسلم حياة قوامها البساطة والتواضع والسلام والجدية والزهد في مظاهر الحياة الدنيا: (الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).
وحين تفقد هذه العبادات الإسلامية هذه المعاني ولا تحقق هذه الأهداف تفقد بذلك معناها وجوهر مهمتها، وتصبح جثة بلا روح. ولا غرو أن جاءت الأحاديث النبوية الشريفة تؤكد ذلك بأسلوب بليغ واضح.
وعن الصيام: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش".
الأخلاق والاقتصاد:
وللأخلاق الإسلامية مجالها وعملها في شئون المال والاقتصاد، سواء في ميدان الإنتاج أم التداول أم التوزيع أم الاستهلاك.
فليس للاقتصاد أن ينطلق ـ كما يشاء ـ بلا حدود ولا قيود، دون ارتباط بقيم، ولا تقيد بمثل عليا، كما هي دعوة بعض الاقتصاديين للفصل بين الاقتصاد والأخلاق.
ليس للمسلم أن ينتج ما يشاء ولو كان ضارا بالناس ماديا أو معنويا، وإن كان يستطيع أن يحصل هو من وراء هذا الإنتاج أعظم الأرباح، وأكبر المنافع.
إن زراعة التبغ "الدخان" أو "الحشيش" ونحوه من المواد المخدرة أو الضارة قد يكون فيها مكسب مادي كبير. ولكن الإسلام ينهاه أن يكون كسبه ونفعه من وراء خسارة غيره وضرره.
وإن تصنيع الأعناب ليصبح عصيرها خمرا يجلب أرباحا وفيرة ويحقق منافع اقتصادية للمنتجين من أصحاب الكروم، ولكن الإسلام أهدر هذه المنافع في مقابل المضار الضخمة التي تترتب على الخمر في العقول والأبدان والأخلاق، وتتمثل فسادا في الأفراد والأسر والجماعات. يقول القرآن: (يسألونك عن الخمر والميسر، قل: فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما).
وليس للمسلم ـ في ميدان التبادل ـ أن يتخذ بيع الخمر أو الخنزير أو الميتة أو الأصنام، تجارة. أو يبيع شيئا لمن يعلم أنه يستعمله في شر أو فساد أو إضرار بالآخرين. كالذي يبيع عصير العنب ـ أو العنب نفسه ـ ممن يعلم أنه يتخذه خمرا، أو يبيع السلاح ممن يعلم أنه يقتل به بريئا، أو يستخدمه في ظلم وعدوان. وفي الحديث: "إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه"، وفيه: "من حبس العنب أيام القطاف، حتى يبيعه من يهودي ـ أي له ـ أو نصراني، أو ممن يتخذه خمرا ـ أي ولو كان مسلما ـ فقد تقحم النار على بصيرة".
وليس للمسلم أن يحتكر الطعام ونحوه مما يحتاج إليه الناس رغبة في أن يبيعه بأضعاف ثمنه. وفي الحديث الصحيح: "لا يحتكر إلا خاطئ" أي آثم. كما قال تعالى: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين).
وليس للتاجر المسلم أن يخفي مساوئ سلعته وعيوبها، ويبرز محاسنها مضخمة مكبرة، على طريقة الدعاية الإعلامية المعاصرة، ليبذل المشترون المخدوعون فيها من الثمن أكثر مما تستحق. فهذا غش يبرأ منه الإسلام، ورسول الإسلام: "من غش فليس منا".
إن الإسلام يرفض كل الرفض الوسيلة القذرة، ولو كانت للوصول إلى غاية شريفة: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"، فالخبيث من الوسائل، كالخبيث من الغايات مرفوض، ولا بد من الوسيلة النظيفة للغاية الشريفة.
الحرب والأخلاق:
وإذا كانت تلك هي سياسة الإسلام في السلم، فإن سياسته في الحرب أيضا لا تنفصل عن الأخلاق.
فالحرب لا تعني إلغاء الشرف في الخصومة، والعدل في المعاملة، والإنسانية في القتال وما بعد القتال.
إن الحرب ضرورة تفرضها طبيعة الاجتماع البشري، وطبيعة التدافع الواقع بين البشر الذي ذكره القرآن الكريم بقوله: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)، (لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)
ولكن ضرورة الحرب لا تعني الخضوع لغرائز الغضب والحمية الجاهلية وإشباع نوازع الحقد والقسوة والأنانية.
(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)، (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام، أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب).
إذا كان لا بد من الحرب، فلتكن في سبيل الله، وهو السبيل الذي تعلو به كلمة الحق والخير ـ لا في سبيل الطاغوت ـ الذي تعلو به كلمة الشر والباطل، (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا).
ولتتقيد الحرب بأخلاق الرحمة والسماحة، ولو كانت مع أشد الأعداء شنآنا للمسلمين، وعتوا عليهم.
والتغيير بالقلب ليس سلبيا كما يظن، ولكنه تعبئة نفسية وشعورية ضد الفساد، لا بد أن تتجسد يوما في عمل ملموس.