إن الأفكار البناءة المنتجة في أيِّ أمة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها في حياتها، وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمة عريقة في الفكر المستنير، أما الثروة المادية والاكتشافات العلمية، والمخترعات الصناعية، فإن الاحتفاظ بها يتوقف على الأفكار، ولاشك في أن التقدم العلمي والتكنولوجي هو رهن بالتقدم الفكري وليس المعرفي وحده، والتقدم الفكري هو حصيلة لأعمال العقل، والتنور بما يؤدي إلى الإبداع والابتعاد وحسن التدبر، ولم يعد دور الإنسان في هذا العصر منحصراً على التكيف مع الواقع، وإنما تعداه إلى ضرورة تغيير هذا الواقع بما يتناسب وتطلعاته اللامحدودة، وهذا يقودنا إلى ضرورة استبدال أفكار ولعب دور المتلقي إلى تنمية التفكير والإبداع والعطاء، أي عدم لعب دور المتأثر بالأشياء إلى المؤثر بها، وهنا لعبت التكنولوجيا ووسائل الإعلام وبرامجه المنوعة وإعلاناتها دورها الخطير في تغيير شخصية الفرد كبيراً وصغيراً في سلوكه واتجاهاته وأفكاره..
لأننا جميعاً نعرف بأن التفكير لا يأتي دون مقدمات، والتفكير ينمّى ويطوّر عند الإنسان ولذلك يكتسب الإنسان معارفه ومعلوماته ومهاراته وعاداته بتفاعله مع بيئته ومع ذاته التي تقوده إلى البحث عن الجديد والمتطور «بغض النظر عن إيجابياته أو سلبياته» وهنا دور المبرمجين في لعب دور الجاذب والحاضن الخطير والمسؤول عن توجيه سلوك الأفراد. وهنا بحثي يقتصر على تأثير الإعلانات على توجيه سلوك الأفراد ودورها الخطير في تسيير أفكارهم لأننا بطبعنا البشري لا يمكن لنا بأن نكون مشاهدين سلبيين لما نرى إنما يجب أن نتعاطف ونتمثل كل ما نشاهده مع أو ضد.
فهناك إعلانات كثيرة مثلاً تؤثر على اختياراتنا في الطعام فتعرض مثلاً الأطعمة والأغذية بطرائق وأشكال وألوان وموسيقا وأشخاص يأكلونها بسلوكيات فيها من الجذب والتشويق والأصوات الكثير وحتى لو كانت لا تناسبنا فسوف نشتري منها ونتذوقها والطامة الكبرى عندما يتعلق أطفالنا بهذه الأطعمة ويصرّون على تناولها.
والأخطر من ذلك أنه بعد مدة يعلنون بأن هذه الأطعمة فيها من المواد الضارة والمسرطنة الكثير ولذلك سُحبت من السوق! فأين الرقابة على هذا في الإعلانات؟
ولكن بالبحث وراء هذه الإعلانات نجد شركات هدفها المكسب المادي بغض النظر عن قيمتها الغذائية بالنسبة لأطفالنا خاصة، عدا عن أن هذه القضية تتسم بأهمية خاصة الآن في ظل تفاقم معدلات البدانة في أوساط الأطفال بمختلف أرجاء البلاد، الأمر الذي يعد ناجحاً في جزء منه عن جهود تبذلها كيانات تجارية همها الربح، وهناك دراسات كبيرة وفي بلدان كثيرة تركض وراء كثير من الشركات التي تنتج الأغذية والأطعمة على اختلاف أنواعها لتدرس كمية المواد الغذائية والمواد الموضوعة فيها والتي تعد صحية أو غير صحية.
فهناك قول للدكتور "دونان" في أميركا لو كانت شركات الأغذية تروج للموز والقنبيط لما كنا نشعر بالقلق لكن بدلاً من ذلك تتعلق غالبية نشاطات التسويق بحبوب مسكرة أو مخدرة أو سريعة التحضير وأخرى خفيفة أو حلوى وهذه كلها تعد أكبر مسؤول عن البدانة عند الأطفال عدا عن أمراض أخرى.
وهناك دراسات أثبتت بأن من أكثر مشاهدي إعلانات الأغذية هم الأطفال والمراهقين وكلها إعلانات لا تتكلم عن الفواكه أو الخضر أو اللحوم؛ هذا يفسر التأثير السلبي على أنماط الطعام وهذا ما يؤكد على التأثير السلبي على نمو الطفل نفسياً وجسدياً بطريقة سلبية ما يؤدي إلى ظهور أنماط سلوكية سلبية وخاطئة في كثير من الأحيان وخاصة عندما نريد أن نقدم كأهل للأطفال وجبات صحية فنلاحظ الرفض والغضب والامتناع عن تناول الطعام.
نشرت دراسة في آذار 2008 في دورية بدياتريكس طب الأطفال عمدت فيه تحليل العلامات التجارية الخاصة بالأطعمة والأشربة والمطاعم من حيث الإيرادات السنوية لها، فوجدت بأن نسبة كبيرة من الأفلام الموجهة للأطفال والمراهقين تتضمن ظهور علامات تجارية شهيرة "كوكاكولا، بيبسي".
هناك زيادة كبيرة في مبيعات الشوكولا وكذلك الوجبات السريعة التي سيطرت على الأفلام والإعلانات، ورقائق البطاطا بأنواعها واختلاف أطعمتها.. وكأننا نسير خلفها في اللاوعي وهذا دليل خطير، ولعل المهم هي مراقبة هذه الشركات الكثيرة والكبيرة الانتشار.
وهذا الذي قلناه شيء قليل من كثير، أما بالنسبة للإعلانات الأخرى والبرامج الموجهة فأصبحت مثل صناعة السيارات فلديها أشكال وألوان وأفكار متعددة منها الفاخر ومنها المتوسط ومنها المتدني، والإعلان القديم لا يناسب الآن أفكارنا المتطورة حول التكنولوجيا ووسائل عرضها، ولكل مجتمع ثقافته وإعلاناته التي تتعلق بعاداته وتقاليده وهنا التنافس في أوجه فالخطة والتنفيذ والتدقيق والإخراج والمراقبة كلها تقع وتعمل لصالح المؤسسة التي وضعت الإعلان.
ولقد كثرت في الآونة الأخيرة المحطات التلفزيونية الموجهة للأطفال الموجهة شكلاً ومضموناً ونجد أطفالنا مصلوبين أمام التلفاز ساعات وساعات طويلة يشاهدونها ويتلقون منها الكثير أغنيات- طعام- لعب وهذا إن دل على شيء فهو يدل على مدى تأثير الإعلان على سلوكياتهم.
فنجدهم يتقمصون المعاني والكلمات واللباس والحركات ويحفظون الشخصيات ويقلدونها، ويفرحون لفرحها ويحزنون لحزنها، ويطلبون من أهلهم شراء ألعابها ومحفظاتها، ودفاترها وإعلاناتها والتي هي بأسعار خيالية في الأسواق وهنا المشكلة الكبرى التي يعانيها الأهل مع أطفالهم وخصوصاً إذا كانوا من ذوي الدخل المحدود فالطفل لا يعرف هذه المشكلة، الطفل يريد وعلينا التنفيذ وهنا يقع الصراع "فالإعلان قال له إن هذه المحفظة أفضل المحافظ ولا يريد غيرها أو هذه اللعبة أفضل الألعاب، أما الأهل فسوف يشترون ما يناسب دخلهم وهنا المشكلة والحل؟!
إذن مشاهدة هكذا أنواع من البرامج أو الإعلانات التلفزيونية يؤدي إلى نمط سلوكي غير مرغوب فيه، عناد، انفعال، غضب، فقدان التفاعل الاجتماعي، فقدان التواصل الحواري، عدم الإحساس بمشاعر الآخرين، التأخر الدراسي، التقليد الأعمى في المأكل والملبس بشكل لا يتناسب مع مجتمعنا وخاصة ما يفعله المراهقون "من لباس وسلوك، وتصرفات في الشكل والمضمون".
أما البرامج والإعلانات عن المسلسلات فهي تشكل خطورة حقيقية في تنمية الاتجاهات والسلوك الاجتماعي لدينا فنحن شعوب تتعاطف مع الآخرين شئنا أم أبينا، ولذلك نجد بأن أفلام "الرعب، والأكشن، والحروب، والقتال.." كلها تشكل سلوكات وأنماط انفعالية سلبية نحو أنفسنا ونحو الآخرين، وهناك دراسات كثيرة تدل على ذلك، إذ إن أطفالنا ومراهقينا يحبون التقليد وسوف أسرد قصة حقيقية حصلت عام 2010 في حماة مع الطفل فيصل الجمعة المولود 2000م والمقيم مع ذويه الذي شنق نفسه بواسطة حبل دائري على باب إحدى غرف المنزل.
وسبب ذلك بأنه كان يلعب ويقلد إحدى شخصيات شاهدها في التلفزيون، ولعل أكبر مسرحية دالة على هذه السلوكات "مسرحية مدرسة المشاغبين" والتي بقيت أعواماً وأعواماً، يتندر بها الكبير والصغير، ويقلدها المراهقون في المدارس وهذا يدل على تأثير البرامج والإعلانات التلفزيونية على سلوك المراهق.
وهناك استخدام وسائل التكنولوجيا وإعلاناتها على السلوك داخل المدرسة، فإعلانات المسلسلات التي تؤكد على سلوك الطالب داخل مدرسته كثيرة "فهو يستخدم الخليوي ليصور مدرسته داخل الصف ويدخل عليها تعديلات تؤدي إلى مشاكسات وإحراج للمعلمين والمعلمات، وكذلك وضع الحبر على كرسي المعلم، ضربه بالطائرات الورقية، ضربة بالطبشور، إفراغ إطارات السيارات لهم..
وكلها نتيجة رؤية المشاهد لهذه البرامج وتقليدها وكأنها أصبحت جزءاً من حياته.
ولا ننسى بأن مشاهدة الإعلانات التجارية "الرياضية، الفنية، الصحية، الثقافية، والغذائية.." عبر الإنترنت مخيبة للآمال ومضيعة للوقت والجهد والمال، فهناك أناس مهووسون بهذه التقنية، يعانون من الهوس المرضي تجاهها وأنا أشبهها كالإدمان على المخدرات من الصعب تركها إلا بالعلاجات السريعة، وكأننا نشعر بأن زمننا أصبح في مهب الريح والفساد والضياع ولا سبيل إلى الفرار من هذه اللعنة لأنها برأيي كمربية سيئاتها أثرت على إيجابياتها والسبب سوء استخدامها من قبل الإنسان الذي ترك لعقله العنان في الخراب والدمار.