كل شيء عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الجزء الخامس
الاعتكاف
كانت عند العرب بقايا من الحنيفية التي ورثوها من دين إبراهيم عليه السلام، فكانوا مع -ما هم عليه من الشرك- يتمسكون بأمور صحيحة توارثها الأبناء عن الآباء كابراً عن كابر، وكان بعضهم أكثر تمسكاً بها من بعض، بل كانت طائفة منهم -وهم قلة- تعاف وترفض ما كان عليه قومها من الشرك وعبادة الأوثان، وأكل الميتة، ووأد البنات، ونحو ذلك من العادات التي لم يأذن بها الله، ولم يأت بها شرع حنيف، وكان من تلك الطائفة ورقة بن نوفل و زيد بن نفيل ورسولنا صلى الله عليه وسلم ، والذي امتاز عن غيره صلى الله عليه وسلم باعتزاله الناس للتعبد والتفكُّر في غار حراء، فما هو خبره صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، هذا ما سنقف عليه في المقال التالي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأمل منذ صغره ما كان عليه قومه من العبادات الباطلة والأوهام الزائفة، التي لم تجد سبيلاً إلى نفسه، ولم تلق قبولاً في عقله، بسبب ما أحاطه الله من رعاية وعناية لم تكن لغيره من البشر، فبقيت فطرته على صفائها، تنفر من كل شيء غير ما فطرت عليه.
هذا الحال الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم دفع به إلى اعتزال قومه وما يعبدون من دون الله، وحبَّب الله إليه عبادته بعيداً عن أعين قومه وما كانوا عليه من عبادات باطلة، وأوهام زائفة، فكان يأخذ طعامه وشرابه ويذهب إلى غار حراء كما ثبت في الحديث المتفق عليه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (جاورت بحراء شهراً...) وحراء هو غار صغير في جبل النور على بعد ميلين من مكة، فكان يقيم فيه الأيام والليالي ذوات العدد، يقضي وقته في عبادة ربه والتفكَّر فيما حوله من مشاهد الكون، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك الباطلة، والتصورات الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح ولا منهج محدد يطمئن إليه و يرضاه.
وكان اختياره لهذه العزلة والانقطاع عن الناس بعض الوقت من الأسباب التي هيأها الله تعالى له ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم، والمهمة الكبيرة التي سيقوم بها، وهي إبلاغ رسالة الله تعالى للناس أجمعين واقتضت حكمة الله أن يكون أول ما نزل عليه الوحي في هذا الغار.
فهذا ما كان من أمر تعبده صلى الله عليه وسلم، واعتزاله قومه وما كانوا عليه من العبادات والعادات، وقد أحاطه الله سبحانه بعنايته ورعايته، وهيأ له الأسباب التي تعده لحمل الرسالة للعالمين. وهو في حاله التي ذكرنا ينطبق عليه قوله تعالى في حق موسى عليه الصلاة والسلام {ولتصنع على عيني} (طه:39)إنه الإعداد لأمر عظيم تنوء الجبال بحمله، إنها الأمانة التي كان يُعدُّ لحملها إلى الناس أجمعين، ليكون عليهم شهيداً يوم القيامة،تحقيقاً لقوله تعالى {وجئنا بك شهيداً على هولاء} (النحل:89) فجزاه الله عن أمته وعن العالمين خير الجزاء، وجمعنا معه تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، والحمد لله رب العالمين .